الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فصل في أسرار الفاتحة وبيان جملة من حكم الله في خلقه للغزالي: قال الغزالي:واذا تفكرت وجدت الفاتحة على إيجازها مشتملة على ثمانية مناهج:1- فقوله تعالى {بسم الله الرحمن الرحيم} نبأ عن الذات.2- وقوله {الرحمن الرحيم} نبأ عن صفة من صفات خاصة وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما ثم تتعلق بالخلق وهم المرحومون تعلقا يؤنسهم به ويشوقهم إليه ويرغبهم في طاعته لا كوصف الغضب لو ذكره بدلا عن الرحمة فإن ذلك يحزن ويخوف ويقبض القلب ولا يشرحه.3- وقوله: {الحمد لله رب العالمين} يشتمل على شيئين:أحدهما أصل الحمد وهو الشكر وذلك أول الصراط المستقيم وكأنه شطره فإن الايمان العملي نصفان نصف صبر ونصف شكر كما تعرف حقيقة ذلك أن أردت معرفة ذلك باليقين من كتاب احياء علوم الدين لاسيما في كتاب الشكر والصبر منه وفضل الشكر على الصبر كفضل الرحمة على الغضب فإن هذا يصدر عن الارتياح وهزة الشوق وروح المحبة وأما الصبر على قضاء الله فيصدر عن الخوف والرهبة ولا يخلو عن الكرب والضيق وسلوك الصراط المستقيم إلى الله تعالى بطريق المحبة وأعمالها أفضل كثيرا من سلوك طريق الخوف وانما يعرف سر ذلك من كتاب المحبة والشوق من جملة كتاب الإحياء ولذلك قال رسول الله أول ما يدعى إلى الجنة الحمادون لله على كل حال.والثاني قوله تعالى رب العالمين إشارة إلى الأفعال كلها واضافتها إليه بأوجز لفظ وأتمه احاطة بأصناف الأفعال لفظ رب العالمين.وأفضل النسبة من الفعل إليه نسبة الربوبية فإن ذلك أتم وأكمل في التعظيم من قولك أعلى العالمين وخالق العالمين.4- وقوله ثانيا الرحمن الرحيم إشارة إلى الصفة مرة أخرى ولا تظن أنه مكرر فلا تكرر في القرآن اذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة وذكر الرحمة بعد ذكر العالمين وقبل ذكر {مالك يوم الدين} ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفضيل مجاري الرحمة إحداهما تلتفت إلى خلق رب العالمين فانه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها وآتاه كل ما يحتاج إليه فأحد العوالم التي خلقها عالم البهائم وأصغرها البعوض والذباب والعنكبوت والنحل فانظر إلى البعوض كيف خلق أعضاءها فقد خلق عليها كل عضو خلقه على الفيل حتى خلق له خرطوما مستطيلا حاد الرأس ثم هداه إلى غذائه إلى أن يمص دم الآدمي فتراه يغرز فيه خرطومه ويمص من ذلك التجويف غذاء وخلق له جناحين ليكونا له آلة الهرب إذا قصد دفعه وانظر إلى الذباب كيف خلق أعضاءه وخلق حدقتيه مكشوفتين بلا أجفان اذ لا يحتمل رأسه الصغير الأجفان والأجفان يحتاج اليها لتصقيل الحدقة مما يلحقها من الأقذاء والغبار وانظر كيف خلق له بدلا عن الأجفان يدين زائدتين فله سوى الأرجل الأربع يدان زائدتان تراه إذا وقع على الأرض لا يزال يمسح حدقتيه بيديه يصقلهما عن الغبار وانظر إلى العنكبوت كيف خلق أطرافها وعلمها حيلة النسج وكيف علمها حيلة الصيد بغير جناحين اذ خلق لها لعبا لزجا تعلق نفسها به في زاوية وتترصد طيران الذباب بالقرب منها فترمي إليه نفسها فتأخذه وتقيده بخيطها الممدود من لعابها فتعجزه عن الإفلات حتى تأكله أو تدخره وانظر إلى نسج العنكبوت لبيتها كيف هداها الله نسجه على التناسب الهندسي في ترتيب السدى واللحمة وانظر إلى النحل وعجائبها التي لا تحصى في جمع الشهد والشمع وننبهك على هندستها في بناء بيتها فانها تبني على شكل المسدس كيلا يضيق المكان على رفقائها لأنها تزدحم في موضع واحد على كثرتها ولو بنت البيوت مستديرة لبقي خارج المستديرات فرج ضائعة فإن الدوائر لا تراص وكذلك سائر الأشكال وأما المربعات فتراص ولكن شكل النحل يميل إلى الاستدارة فيبقى داخل البيت زوايا ضائعة كما يبقى في المستدير خارج البيت فرج ضائعة فلا شكل من الأشكال يقرب من المستدير في التراص غير المسدس وذلك يعرف بالبرهان الهندسي فانظر كيف هداه الله خاصية هذا الشكل وهذا أنموذج من عجائب صنع الله ولطفه ورحمته بخلقه فإن الأدنى بينة على الأعلى وهذه الغرائب لا يمكن أن تستقصى في أعمار طويلة أعني ما انكشف للآدميين منها وأنه ليسير بالاضافة إلى ما لا ينكشف واستأثر هو والملائكة بعلمه وربما تجد تلويحات من هذا الجنس في كتاب الشكر وكتاب المحبة فاطلبه أن كنت له أهلا والا فغض بصرك عن آثار رحمة الله ولا تنظر اليها ولا تسرح في ميدان معرفة الصنع ولا تتفرج فيه واشتغل بأشعار المتنبي وغرائب النحو لسيبويه وفروع ابن الحداد في نوادر الطلاق وحيل المجادلة في الكلام فذلك اليق بك فإن قيمتك على قدر همتك ولا ينفعكم نصحي أن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ولنرجع إلى الغرض والمقصود التنبيه على أنموذج من رحمة في خلق العالمين.وثانيها تعلقها بقوله {مالك يوم الدين} فيشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الانعام بالملك المؤبد في مقابلة كلمة وعبادة وشرح ذلك يطول.والمقصود أنه لا مكرر في القرآن فإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر فانظر في سوابقه ولواحقه لنكشف لك مزيد الفائدة في اعادته.5- وأما قوله {مالك يوم الدين} فإشارة إلى الآخرة في المعاد وهو أحد الأقسام من الأصول مع الاشارة إلى معنى الملك والملك وذلك من صفات الجلال.6- وقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} يشتمل على ركنين عظيمين:أحدهما العبادة مع الإخلاص بالاضافة إليه خاصة وذلك هو روح الصراط المستقيم كما تعرفة من كتاب الصدق والإخلاص وكتاب ذم الجاه والرياء من كتاب الإحياء.والثاني اعتقاد أنه لا يستحق العبادة سواه وهو لباب عقيدة التوحيد وذلك بالتبري عن الحول والقوة ومعرفة أن الله منفرد بالأفعال كلها وأن العبد لا يستقل بنفسه دون معونته فقوله اياك نعبد إشارة إلى تحلية النفس بالعبادة والاخلاص وقوله وإياك نستعين إشارة إلى تزكيتها عن الشرك والالتفات إلى الحول والقوة.وقد ذكرنا أن مدار سلوك الصراط المستقيم على قسمين أحدهما التزكية بنفي ما لا ينبغي والثاني التحلية بتحصيل ما ينبغي وقد اشتمل عليهما كلمتان من جملة الفاتحة.7- وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} سؤال ودعاء وهو مخ العبادة كما تعرفه الأذكار من الأذكار والدعوات من كتب الإحياء وهو تنبيه على حاجة الانسان إلى التضرع والابتهال إلى الله تعالى وهو روح العبودية وتنبيه على أن أهم حاجاته الهداية إلى الصراط المستقيم اذ به السلوك إلى الله تعالى كما سبق ذكره.8- وأما قوله {صراط الذين أنعمت عليهم} إلى آخر السورة فهو تذكير بنعمته على أوليائه ونقمته وغضبه على أعدائه لتستثير الرغبة والرهبة من صميم الفؤاد وقد ذكرنا أن ذكر قصص الأنبياء والأعداء قسمان من أقسام القرآن عظيمان.وقد اشتملت الفاتحة من الأقسام العشرة على ثمانية أقسام.1- الذات.2- والصفات.3- والأفعال.4- وذكر المعاد.5- والصراط المستقيم بجميع طرفيه أعني التزكية والتحلية.6- وذكر نعمة الأولياء.7- وغضب الأعداء.8- وذكر المعاد ولم يخرج منه إلا قسمان أ- محاجة الكفار ب- وأحكام الفقهاء وهما الفنان اللذان يتشعب منهما علم الكلام وعلم الفقه وبهذا يتبين أنهما واقعان في الصنف الأخير من مراتب علوم الدين وانما قدمهما حب المال والجاه فقط..الفصل الثالث عشر: في كون الفاتحة مفتاحا لأبواب الجنة الثمانية: وعند هذا ننبهك على دقيقة فنقول إن هذه السورة فاتحة الكتاب ومفتاح الجنة وانما كانت مفتاحا لأن أبواب الجنة ثمانية ومعاني الفاتحة ترجع إلى ثمانية فاعلم قطعا أن كل قسم منها مفتاح باب من أبواب الجنة تشهد به الأخبار فإن كنت لا تصادف من قلبك الايمان والتصديق به وطلبت فيه المناسبة فدع عنك ما فهمته من ظاهر الجنة فلا يخفى عليك أن كل قسم يفتح باب بستان من بساتين المعرفة كما أشرنا اليها في آثار رحمة الله تعالى وعجائب صنعه وغيرها.ولا تظن أن روح العارف من الانشراح في رياض المعرفة وبساتينها أقل من روح من يدخل الجنة التي يعرفها ويقضي فيها شهوة البطن والفرج وأنى يتساويان بل لا ينكر أن يكون في العارفين من رغبته في فتح أبواب المعارف لينظر إلى ملكوت السماء والأرض وجلال خالقها ومدبرها أكثر من رغبته في المنكوح والمأكول والملبوس وكيف لا تكون هذه الرغبة أكثر وأغلب على العارف البصير وهي مشاركة للملائكة في الفردوس الأعلى اذ لا حظ للملائكة في المطعم والمشرب والمنكح والملبس ولعل تمتع البهائم بالمطعم والمشرب والمنكح يزيد على تمتع الانسان فإن كنت ترى مشاركة البهائم ولذاتهم أحق بالطلب من مساهمة الملائكة في فرحهم وسرورهم بمطالعة جمال حضرة الربوبية فما أشد غيك وجهلك وغباوتك وما أخس همتك وقيمتك على قدر همتك وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف واعتكف فيها ولم يلتفت أصلا إلى جنة البله فإن أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب كما ورد في الخبر.وأنت أيضا أيها القاصر همتك على اللذات قبقبة وذبذبة كالبهيمة ولا تنكر أن درجات الجنان انما تنال بفنون المعارف فإن كانت رياض المعارف لا تستحق في أن تسمى نفسها جنة فتستحق أن يستحق بها الجنة فتكون مفاتيح الجنة فلا تنكر في الفاتحة مفاتيح جميع أبواب الجنة. اهـ..فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة: قال محمد الغزالي:مقدمة:بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.هذه دراسة جديدة للقرآن الكريم، سبق أن قدمت نماذج منها في بعض ما كتبت. وقد لازمنى شعور بالقصور وأنا أمضى فيها، فشأن القرآن أكبر من أن يتعرض له مثلى، ولكنى حرصت على أن أزداد فقها في القرآن وتدبرا لمعانيه. وقلت: قد أرتاد طريقا لم أسبق إليه أفتتح به بابا من أبواب الخير، والقرآن لا تنقضى عجائبه، ولن نبلغ مهما بذلنا مداه!! والهدف الذي سعيت إليه أن أقدم تفسيرا موضوعيا لكل سورة من الكتاب العزيز. والتفسير الموضوعى غير التفسير الموضعى: الأخير يتناول الآية أو الطائفة من الآيات فيشرح الألفاظ والتراكيب والأحكام! أما الأول فهو يتناول السورة كلها يحاول رسم صورة شمسية لها تتناول أولها وآخرها، وتتعرف على الروابط الخفية التي تشدها كلها، وتجعل أولها تمهيدا لآخرها، وآخرها تصديقا لأولها. لقد عنيت عناية شديدة بوحدة الموضوع في السورة، وإن كثرت قضاياها، وتأسيت في ذلك بالشيخ محمد عبد الله دراز عندما تناول سورة البقرة- وهى أطول سورة في القرآن الكريم- فجعل منها باقة واحدة ملونة نضيدة، يعرف ذلك من قرأ كتابه النبأ العظيم وهو أول تفسير موضوعى لسورة كاملة، فيما أعتقد.. وعلماء القرآن أجهزة استقبال لما يؤتيهم الله من فهم فيه، فالفضل أولا وأخرا لمن أسدى تبارك اسمه!. وقد شعرت- على ضوء ما أحسست من نفسى- أن المسلمين بحاجة إلى هذا اللون من التفسير! كيف؟ لقد صحبت القرآن من طفولتى، وحفظته في سن العاشرة، ومازلت أقرأه وأنا في العقد الثامن من العمر.. بدا لى أن ما أقبس من معانيه قليل، وأن وعيى لا يتجاوز المعاني القريبة والجمل المرددة، فقلت: إنى ما قضيت حق التدبر فيه كما أمر منزله العظيم! يجب أن أغوص في أعماق الآية لأدرك رباطها بما قبلها وما بعدها، وأن أتعرف على السورة كلها متماسكة متساوقة...ثم شعرت بأن همتى دون هذه المهمة!! وكدت أتوقف! ثم قلت: لأن أقطع شوطا أو شوطين في هذا الطريق أفضل من أن استسلم للعجز في المراحل الأولى. ولكن الله أعان ووفق فقطعت الطريق وبلغت نهايته. والقرآن الكريم خلاصة ما أنزل الله من وحى في القرون الأولى، وقد توافر له من الحفظ ما ضمن له الخلود، ولا يوجد في الأولين والآخرين كتاب وعته القرائح وسجلته الصحائف وحفه التواتر حرفا حرفا إلا هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه. فلو سأل سائل: أين وحى الله في هذا العصر؟ لما كانت الإشارة إلا إلى القرآن، ولا الإشادة إلا بكلماته التي غلبت الفناء، فيها وحدها الحق المعصوم والهدى المستقيم.. وأكرر أننى مستكشف قاصر، وأن الوادى الذي أستقى منه يسيل على قدرى أنا- وهو محدود- ولكنه يحث الخطى إلى ما هو أبعد، ويحدو أولى الألباب إلى الشأو الأعلى في خدمة القرآن، وإماطة اللثام عن روائعه وبدائعه... إننى أختار من الآيات ما يبرز ملامح الصورة، وأترك غيرها للقارئ يضمها إلى السياق المشابه، وذلك حتى لا يطول العرض ويتشتت، والإيجاز مقصود لدى.... وأنبه إلى أن هذا التفسير الموضوعى لا يغنى أبدا عن التفسير الموضعى بل هو تكميل له وجهد ينضم إلى جهوده المقدورة... وهناك معنى آخر للتفسير الموضوعى لم أتعرض له! وهو تتبع المعنى الواحد في طول القرآن وعرضه وحشده في سياق قريب، ومعالجة كثير من القضايا على هذا الأساس... وقد قدمت نماذج لهذا التفسير في كتابى: المحاور الخمسة للقرآن الكريم ونظرات في القرآن. ولا ريب أن الدراسات القرآنية تحتاج إلى هذا النسق الآخر، بل يرى البعض أن المستقبل لها! وعلى كل حال فالقرآن الكريم دستور الإسلام ومعجزته الباقية، والمورد الذي نتردد عليه فنحس الحاجة إليه آخر الدهر. والحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب وجعله هدى لأولى الألباب، وحصنه من الخطأ ومحضه للصواب.... محمد الغزالي.
|